د. أروى محمد الشاعر تكتب :غزة… حين يصرخ التراب وتنزف السماء

في غزة، على رمالٍ قانية بلون الدم، تُحفَظ أسماء الشهداء وتُطفأ ضحكات الطفولة التي تحوّلت إلى صيحات تطالب بالنجاة. هناك، لا يأتي الليل بهدوئه المعتاد، بل يحمل زئير الطائرات، ووميض القذائف، وبقايا حياةٍ تسكن بين الأنقاض. مدينة تهاجمها العواصف، لا تلك التي تنثر المطر، بل عواصف من فولاذ ونار، تمزق الأفق وتترك ندوبًا تحكي وجعًا محفورًا على الأرصفة، حيث مشت آخر خطوات طفل، وذابت آخر نظرة أم.
غزة مدينة لم تُخلق لتنام، بل لتصحو كل ليلة على صفير الموت، وارتجاف الزجاج وصراخٍ يمزق جدران الصمت، هناك طفلٌ ينكمش في حضن أمه ينتظر أن تمر العاصفة… لكنها لا تمر.
الطفولة تُختال بالحطام والرماد، من قصفٍ لا يفرّق بين وجه رضيع وركنِ مسجد
في غزة، الطفولة تُختال بالحطام والرماد، من قصفٍ لا يفرّق بين وجه رضيع وركنِ مسجد، بين مئذنة وكنيسة، بين مدرسة ومستشفيات تحولت الىً قبور، وبين صورةٍ عائلية معلقة منذ عشرين عامًا على الجدار. قصفٌ صهيوني لا يعرف الرحمة، لا يتوقف، لا يشبع، تأتي طائراته كوحوش جائعة تنقض على البيوت تشطرها نصفين، تذرّ الرماد وتترك خلفها سؤالًا يُقصي المنطق: هل كان هذا منزلًا؟ هل كانت هناك أسرة؟ هل عاشت هنا حياة؟ غزة تنزف، تحكي عن أبٍ عاد ليجد أطفاله تحت الركام، عن أمٍ أمسكت بيد طفلها في اللحظة الأخيرة ثم لم تجد سوى أصابع مبتو، تحكي عن أعراس تحوّلت إلى جنائز، وكتب مدرسية احترقت قبل أن تُقرأ، وعن شبابٍ قُتلوا قبل أن يتذوّقوا طعم الأمل.
الحقيقة تطرق أبواب السماء كل ليلة، تسأل: أما من سامع؟
إن دمعة أم، ونداء أب… ليسوا مجازًا، هي الحقيقة التي تطرق أبواب السماء كل ليلة، تسأل: أما من سامع؟ أما من غاضب؟ أما من قلب؟ لكن الصوت يرتد، يُحبس في جدرانٍ عالية أقامها العالم حول ضميره، وتستمر المذبحة.
يواصل العالم دورانه، يشيح بوجهه، كأن النار لا تشتعل، كأن غزة لا تنزف، لكن ما لا يُرى تحت الركام هو ما يستحق الوقوف، ففي شهقة كل ناجٍ تتوهج جمرة لا تستسلم، لا تنطفئ، تقول رغم الألم: نحن هنا في وطنٍ لا يقول الوداع.
كم قلبًا سينكسر الليلة وأنتم تقرأون ما كتبته، وكم بيتًا سيفقد أسماءه وأحلامه قبل أن يبزغ فجرٌ لا يحمل موتًا؟ ليس سؤالًا شعريًا بل حسابٌ يومي يتكرر: أطفال ونساء قتلى، جثث مجهولة، خبر يُكتب ويُقرأ، ثم يُنسى، لكن في غزة لا يُنسى شيء، هناك ذاكرة، هناك ضوءٌ خافت في عيون من بقوا على قيد الحياة لا لشيء سوى لأن الصاروخ لم يصبهم هذه المرة. الاحتلال لا يقتل فقط، بل يحاول محو الذاكرة، تفتيت الحكايات، دفن الأسماء لكنه يفشل دائمًا لأن غزة أصبحت ملحمة وفكرة ومقاومة، وجذور مغروسة في أرضٍ شربت الدم ولم تتعب. في غزة هناك شيء لا يمكن قصفه، الإرادة التي تصرخ: نحن لا ننهزم حتى حين يرحل الجسد، تبقى الروح شامخة، تكتب بدمها: لن نغادر، لن نستسلم، لن ننسى.
جرح مفتوح في ضمير البشرية وإن بقي العالم أصمًّا، فالحجارة والمجازر هناك تتكلم
غزة… جرح مفتوح في ضمير البشرية وإن بقي العالم أصمًّا، فالحجارة والمجازر هناك تتكلم، إنها قلبٌ مكشوفٌ للريح، وصدرٌ مفتوحٌ للسماء، يتلقى الضربات دون درع.
في غزة لا يأتي النهار بل يغيب عند الأفق، وتسيل دماء الأطفال، الضحكة هناك فعل مقاومة، والطفولة حلم يتفتت تحت قصف الطائرات والقنابل وجنازير الدبابات.
أطفال غزة خرجوا إلى الحياة ليملؤوا الدنيا ضحكًا وأرجوحةً، لكن الحرب قطعت الحبل قبل أن تكتمل الفرحة. في غزة لا يحمل الأطفال أقلام تلوين بل أسماء إخوتهم الشهداء، لا يحفظون الأغاني بل أرقام الصواريخ وأسماء الطائرات.
كل طفل هناك هو مشروع شهيد مؤجل ووجه صغير خُلق ليُحرق في مجزرة، وصوتٌ واهن خُلِق ليُقمع في قبو تحقيق، يولد وفي عينيه نبوءة الفقد، ويخطو أولى خطواته فوق ركام بيتٍ ربما كان بيته أو بيت جاره أو مدرسته.
في غزة، لا يبدأ الطفل اسمه بالحلم، بل بالنجاة، يسأل أمه: “هل سنموت الليلة؟” فتكتم دمعتها وتجيبه: “نم… الله معنا”، لكنه لا ينام لأنه يعرف كما تعرف هي أن السماء في غزة لا تُعطي النوم، بل تُلقي الصواريخ.
أطفال غزة لا يركضون خلف الفراشات، بل هربًا من رائحة الموت، لا يرسمون شمساً ولا بيتًا له نافذة، بل خيمة بلا سقف، لا يموتون وحدهم، بل تموت معهم ضمائر العالم وتسقط معهم شعارات العدالة، وتُدفن في قبرهم كل الأديان التي ادّعت الرحمة.
أطفال غزة هم الورود التي قطفتها الحرب قبل أن تتفتح، هم النور الذي أراد الاحتلال أن يطفئه… لكنه فشل، إنهم باقون في ضوء النجوم، في صفحات التاريخ، في الدعاء، وفي الزنابق التي تنمو من بين الأنقاض، شاهدة على جريمة لن تُنسى.
أيها الإنسان، إن كنت كذلك، هل نظرت يومًا في عيون أطفال غزة؟ هل رأيت طفلًا يحمل كفنه بدل حقيبته؟ هل وصل إليك صوت طفلٍ يتشبث بجثة أمه، يسألها: “لماذا لا تردين؟، هل سمعت صوت أمٍ تصرخ وهي تنادي طفلها المدفون تحت الركام؟ أو رأيت طفلًا يخرج من تحت الأنقاض فلا يجد أمه؟ هل شاهدت أبًا يلهث، يحفر بيديه العاريتين التراب والإسمنت بحثًا عن بقايا أمل؟ أو سمعت أصوات الآباء وهم يحتضنون أجساد أطفالهم، إنها لا تحتاج إلى ترجمة، الألم هناك ناطقٌ بكل لغات الأرض، هل تتخيل حجم الصرخة حين يسأل طفل: أين ذهب أخي؟ فيجيبونه بصمت لأن الكلمات تخون.
الطفولة تنضج قبل أوانها وتشيخ دون أن تحيا
في غزة، الطفولة تنضج قبل أوانها وتشيخ دون أن تحيا، الطفل هناك يحلم فقط أن يبقى حيًا حتى الغد. أحلامهم لا تحمل فرحاً بل أصوات الإسعاف، ووجه أمٍ تبكي وهي تُسعفهم لا بضمادة بل بدعاء. في غزة بينما يتأنق أطفال العالم بملابس العيد، يُلَبَّس أطفالها الأكفان، كأن الموت هو زيّهم الرسمي في مواسم الفرح أليس كل ذلك كافيًا ليهز ضمير العالم؟.
وأنتم يا أهل القرار في هذا العالم العليل، غزة لا تريد خطاباتكم الباردة، بل أن توقفوا نزيفها، أطفال غزة لا يريدون مؤتمرات ولا بيانات شجب، يريدون فقط أن يكبروا، أن يذهبوا إلى المدرسة بلا خوف، أن يناموا بلا قصف، أن يحلموا ككل أطفال الأرض… لا أن يُذبحوا لأنهم فقط من غزة. فما قيمة قانونٍ لا يردع قاتلًا؟ وما جدوى إنسانية لا تحمي الإنسان؟.
يا من تصمّون آذانكم عن مجازر غزة، أي مستقبل يُبنى على عظام الطفولة؟ أي حضارة هذه التي تصمت على جثث الصغار؟ ليست غزة ساحة حرب بين جيشين، لا توازن ولا معركة عادلة، هناك شعب أعزل يواجه قوة عسكرية نووية. الحديث عن “حق الدفاع عن النفس” لمحتل مرفوض ولا شيء يُبرر تدمير أحياء بأكملها، ولا قتل الأسر في نومها، ولا محو العائلات اسمًا ووجودًا. ليس هذا صراعًا بل مجزرة تُنفّذ على مراحل وصمتكم وقودها.
غزة مرآة لما تبقّى من شرفٍ في هذا العالم
غزة ليست عبئًا، ولا مجرد عنوانٍ للألم، بل مرآة لما تبقّى من شرفٍ في هذا العالم، إن تركتم غزة وحيدة، فأنتم تتركون آخر معاقل الكرامة تسقط، إن صمتّم على صرخات الأطفال، فأنتم تقايضون دماءهم بالصمت.
غزة لا تطلب المستحيل، فقط أن تعيش، أن تُمنح حق التنفس، حق الطفولة، حق الأمل، فكم من طفلٍ سيُكتب اسمه في قائمة الشهداء قبل أن يعرف الحروف؟ ولكن إن عجز العالم عن ذلك، فغزة ستبقى لأنها خُلقت من صلابة لا تُقهر، ومن جذور لا تُقتلع.
سأقولها بصراحة كضمير حي يسمع ويرى… ما أريده من هذه الكلمات ليس نصًا جميلًا، بل صرخة تقاوم التبلد، أن نكتب لغزة هو أن نقف في وجه العجز، ونُعرّي الصمت، ونفضح الكذب الملبّس بثياب الإنسانية.
غزة لا تحتاج استعطافًا، بل عدالة، لا تحتاج شفقة، بل صوتًا لا يخون. ما بين دموع الأمهات وصرخات الآباء وهمهمات الأطفال هناك نداءٌ لا يموت: أنقذوا إنسانيتكم قبل أن تُقصف قلوبكم مثلما تُقصف بيوتهم.
إنني أكتب لأنني أرفض أن أكون حيادية في وجه القتل لأن غزة ليست خبرًا عابرًا، بل أمانة في أعناقنا جميعًا.
وفي قلب هذه الملحمة الغزاوية، لا أكتب بحبر بل بدمع، أعرف كطبيبة قلب كيف يبدو الأمل حين تعود الحياة إلى جسدٍ كاد أن يرحل، أُمسك بيد مريض في العناية المكثفة وأهمس له: “ابقَ، لا ترحل”، وأشعر أن العالم يعود للحياة حين أسمع قلبًا ينبض من جديد بعد توقفه، لكنني أُهزم كل مرة حين أرى أن في غزة قلوبًا كثيرة تتوقف دفعة واحدة… بلا فرصة، بلا محاولة إنعاش، وبلا أحدٍ يُمسك بأيديهم ويهمس لهم بالعودة.
أسأل العالم:
كم من طفل يُقتل لأن اسمه فلسطيني
إلى متى يُقاس الألم بالسياسة؟، وإلى متى يُختزل الدم الفلسطيني في أرقام على الشاشات؟، كيف تحتملون هذا الكم من الأرواح تُزهق وأنتم لا تهتزّون؟، كم من طفل يُقتل لأن اسمه فلسطيني، ولون بشرته ترابي كأرضه، ونظرته تقول: “أنا باقٍ”؟ أما آن للضمير أن يصحو؟ وللصمت أن ينكسر؟ غزة هي ميزان أخلاقي، من خذلها خذل ضميره، ومن صمت عنها، صمت عن إنسانيته.
غزة… مدينة لا تُقهر، لأنها رغم الجراح ما زالت تنبض، رغم الموت ما زالت تُحب، ورغم الركام… ما زالت تنظر إلى السماء وتقول:
"لن نركع.”